فينسنت فان جوخ.. الفنان الهولندي العالمي، اسطورة الفن التشكيلي الحديث وأحد أشهر مؤسسي مدرسة ما بعد الانطباعية في الفن. ولد عام 1853 بإقليم براينت جنوبي هولندا، وتوفي منتحراً عام 1890 في باريس فرنسا.
جسد الفنان المعذب طيلة حياته مقولة "يولد الابداع من رحم المعاناة"، حيث ولد ابداعه من رحم الاضطرابات النفسية التي عاشها متمثلة في الوحدة التي رافقته حتى لحظاته الاخيرة، والتقلبات المزاجية والاكتئاب الذي دفعه للجلوس طواعية بمصحة سانت ريمي في فرنسا ليقضي آخر أيامه، وهي الفترة الاكثر غزارة في إنتاجه الفني، لينجز خلالها أكثر من الفي قطعة من لوحات زيتية ورسومات تعد الآن الاكثر شهرة وتميزاً والاغلى في العالم.
كافح فان جوخ لمقاومة الاضطرابات النفسية متجهاً للفن، ومتخذاً الطبيعة مأوى، والرسم عزاء، وريشة الفنان كانت رفيقه الوحيد، ذلك الرفيق الصادق بنقل المعاناة التي عاشها او التي شعر بها تجاه الآخرين.
لم يقتصر ابداعه على امتلاكه ريشة فنان عبقرية وانما تجاوز الى قلم أديب رفيع المستوى ظهر في رسائله التي كتبها الى أخيه "ثيو" رفيق دربه وصديق مشواره الفني والشاهد الوحيد على مأساة الفنان المعذب.
مثّل فان جوخ حالة التكامل بين الفنان الرسام والفنان الاديب، فقد قالت كلماته في رسائله ما اراد أن يوصله عبر لوحاته ولم يقلّ توصيفه للوحاته أدبياً في رسائله ابداعاً عمّا ظهرت عليه تلك اللوحات المصورة فعلياً، ففي لوحته الشهيرة "آكلو البطاطس1885" التي تعد من اولى لوحاته ورسمها أثناء اقامته بين الفلاحين والعمال في هولندا ابدعت ريشته بتصوير بؤس حياة الفلاحين والعمال الذين صورهم يجلسون تحت مصباح خافت يأكلون البطاطس مما زرعت ايديهم، وعلى وجوههم امارات التعب والشقاء، ووصفها في إحدى رسائله "أردتُ حقاً أن أصنعها بحيث تترتب لدى الناس فكرة أن أولئك البشر، الذين يأكلون البطاطس على ضوء مصباحهم الصغير، حرثوا الأرض بأنفسهم بهذه الأيدي التي يضعونها في الطبق، فتتحدثُ عن العمل اليدوي، وأنهم كسبوا قوتهم بشرف. أردتُ أن أمنحها فكرة أسلوب عيشٍ مفارقٍ تماماً لأسلوبنا نحن أهل الحضر. لذا فأنا بالتأكيد لا أريد لأحد أن يعجب بها أو يقبلها بدون أن يعرف السبب".
في لوحته "شرفة المقهى في الليل" نرى ابداعاً صارخا باستخدام الالوان وتمازجها، لتتجلى عبقرية ريشته بعدم استخدام اللون الاسود في اللوحة رغم انها مصوَّرة في الليل وقد عكست حالة من الإشراق والتوهج الروحي والارتياح النفسي والصفاء الذهني التي عاشها الفنان في تلك الفترة، وأمعن قلمه بتوصيفها لأخيه قائلا: "عطلني تحديداً العمل الذي منحني في الأيام الماضية لوحةً لخارج مقهى في المساء. في الشرفة، ثمّة شخوص صغيرة لأناس يشربون. يُضيء الشرفة فانوس أصفر ضخم والواجهة، والرصيف، بل ويسقط الضوء على حجارة الطريق، التي تأخذ صبغة بنفسجية وردية. جمالونات البيوت بشارعٍ ممتد تحت سماء زرقاء مرصعة بالنجوم، زرقاء غامقة، أو بنفسجية، مع شجرة خضراء. الآن ثمة لوحة لليل دون أسود. دون شيء سوى أزرق جميل وبنفسجي وأخضر، وفي هذه الأنحاء يكون لون الميدان المضاء بالكبريت الشاحب، والأخضر الليموني. إنني أستمتع كثيرا بالتصوير في تلك البقعة ليلاً. في الماضي اعتادوا أن يرسموا ويصوّروا اللوحة من رسم نهاري. لكنني أجده مناسباً لي أن أصور الشيء مباشرة. من الممكن أن أظن الأزرق أخضر في الظلمة، أو الأزرق الليلكي، وردياً ليلكياً، لأنك لا يمكنك تحديد طبيعة الدرجة بوضوح. لكنها الطريقة الوحيدة للهروب من أسود الليل التقليدي، مع الضوء الشاحب الفقير المبيض، بينما ضوء شمعة فقط كافٍ ليعطينا أغنى درجات الأصفر والبرتقالي".
أحب فان جوخ حقول القمح الصفراء وضمّنها في كثيرٍ من لوحاته، وأبدع بتصويرها وابراز تدرجات الالوان المختلفة لينتج لنا تحفاً فنية مثل لوحة "حقل القمح مع غروب الشمس 1888" التي قال عنها بإحدى رسائله "ها هو مشهدٌ طبيعيٌ آخر. شمس غاربة؟ قمر بازغ؟ أمسية صيفية على أي حال. مدينة بنفسجية، نجم أصفر، سماء زرقاء مخضرة، حقول القمح بكل الدرجات: الذهبي القديم، النحاسي، الذهبي الأخضر، الذهبي الأحمر، الذهبي الأصفر، الأخضر، الأحمر، والبرونزي الأصفر". ونجده يبدع بوصف لوحة "منظر آرل مع زهور السوسن في المقدمة 1888" فيقول "مرج مليء بزهور الحوذان الصفراء للغاية، ومجرى مائي بنبات الزنبق وأوراقه الخضراء، وزهور أرجوانية، البلدة في الخلفية، وبعض أشجار الصفصاف الرمادية، وشريط من السماء الزرقاء".
و عن لوحة "ليلة النجوم 1888" الاكثر شهرة في العالم والتي كانت حلماً بالنسبة له، يقول: "إنني أود حقاً أن أصوّر سماء بنجوم الآن. يبدو لي أحياناً أن الليل أغنى لوناً من النهار، ملون بأكثر البنفسجيات ودرجات الأزرق والأخضر شدة". تلك الكلمات المضمنة في الرسالة، تظهر البراعة التي اشتهر بها فان جوخ، والعبقرية الإبداعية في توصيف الطبيعة والألوان، والمقدرة على صناعة الانسجام وحالة التوافق اللوني.
اما لوحة "أزهار اللوز 1890" فرسمها بنفس العام الذي توفي فيه لمناسبة عزيزة عليه هي ولادة ابن شقيقه ثيو الذي حمل اسم عمه الفنان فينسنت، وقال عنها: "جاء المولود وبدأت ارسم له هذه الايام الاخيرة لوحة كبيرة لأغصان محمّلة بالزهور على خلفية سماء زرقاء".
انه فان جوخ الرسام الاديب الذي أراد اتساعاً في حياته كامتدادات حقول القمح الصفراء التي أحبها، وودَّ لو كان له اصدقاء ورفاق كنجوم الليل على ضفاف نهر الرون، الفنان المعذب الذي بحث عن الانس والسعادة كتلك التي عاشها اولئك الساهرون على شرفة المقهى في الليل. هو الذي حلم ببداية جديدة وحياة سعيدة كأزهار اللوز المتفتحة في اوائل الربيع، لقد عاش الحياة التي ارادها في لوحاته وآمن انه سيستطيع التعبير عما يريد عبرها: "إنني اؤمن ان هذه اللوحات ستقول ما اعجز عن قوله بالكلمات" ، وكان له ما اراد حيث أبدعت لوحاته بإظهار ما اراد قوله لنا نحن اصدقاؤه البعيدون الذي كتب عنا في احد رسائله قائلاً: "إن بعض الاصدقاء القليلين ممن سأتخذهم لاحقاً سيقبلونني كما انا".
فينسنت فان جوخ "المخلص دوماً" كما اعتاد أن يختتم رسائله مع أخيه ثيو، تلك الكنوز والنصوص الأدبية التي أخبرت عن موهبة فنان عظيم لم تختزلها ريشة الفنان ولوحاته فقط وانما قلم فان جوخ الاديب وكلماته، فقد نقل فان جوخ عبر هذه الرسائل المعاناة والمشاعر التي عاشها وابدع في توصيفها بشكل دقيق واستطاع من خلالها اخبارنا عن مدى تعلقه بالرسم وانه يمثل الحياة بالنسبة له حيث قال في احدى رسائله "بينما أرسم أشعر ببعض الحياة"، هذه الحياة الفنية القصيرة بعدد سنواتها الغنية بنتاجها الفني وإرثها الادبي لفان جوخ المبدع حيث اجتمعت ريشة الفنان مع قلم الأديب.
المصادر :
- ستون، ايرفنغ.(2020). فنسنت فان جوخ، (ترجمة ناهض منير الريس ). القاهرة: بيت الياسمين للنشر و التوزيع.
- يانسن، ليو ولويتن، هانز وباركر، نيينكه. (2017 ).المخلص دوماً فنسنت الجواهر من رسائل فان جوخ، (ترجمة ياسر عبد اللطيف ومحمد مجدي ). القاهرة: الكتب خان للنشر و التوزيع.